قبل البدء
الأحلام لا تتحقق، لا يفترض بها ذلك. الأهداف أولى، أما الحلم، فهو كما وصفه العرب:
بعضه يقبض نفسك في منامك، وبعضه يعيد ترتيب بقية يومك. وأنا أقول (بعضه، لا بعضها) لترى الفرق.
وبين الحلم والواقع فكرة، والفكرة ليست إلا أنت. وكم شقي الناس بـأنت! وأين منك نفسك وحلمك؟ وأين منك فكرتك التي في رأسك، لا ما جاء من رأس غيرك؟
وأنت – بحلم أو بدونه – أنت. وانظر إلى السماء بنجومها، هل في الأمر وجه شبه؟ كم من نجم وافق حلماً ليتحقق مع أمنية، كما في الأساطير! وانظر إلى الأرض، كيف انتبهتَ من منامك على حلمك فخفته، واستعذت منه.
ثم هي الرشا... أن تكون حلمك، فأنت بخير. أن تكون حلمها، فذاك حلمٌ لم يتحقق. انظر إلى السماء، ستجدها... وسِرْ في الأرض، ستراها.
إن تطاول بك الزمن، فهي حاضرة كما عهدتها أول مرة. إن اشتبه عليك الأمر، فهي الصدق لا الظن، والحل لا المشكلة، والحقيقة لا الزيف، والنصر لا الخذلان، والطمأنينة لا الخيبة.
فوق الحلم ودون الخيال، أبعد منك، أقرب لك. لا تعرفها، ولن تنكرها. في كل شيء لها أثر. يدها ممدودة كصلة الرحم بالرحم، وصدقها ناصع كبياض الفجر. ثم هي فوق هذا، لا تكلِّفك شيئًا، ولا تريد المقابل بالمقابل.
وكم حِرْتُ كثيرًا – وأنا أنا – في وصف ابتسامة مسنّة مع دعاء عند الإفطار، أصبحت بخير من هذه الرشا. حرت. كيف أصفه؟ حسنًا، كيف أجازيه؟ حسنًا، كيف أحفظه؟ حسنًا، كيف يكون قدرها في نفسك، لا قلبك فقط؟
انظر إلى اسمها... انظر... ببصيرة... ثم تأمل... ثم تأمل... لتتأمل أن يكون كل البشر رشا. ثق بي حين أخبرك – وأنا أنا – أن الدنيا ستكون بخير. على الأقل، دعاء تلك المسنّة مع ابتسامتها عند ساعة الإفطار، هذا الدعاء سيصل للسماء...
بربِّك، أين سيذهب إلا إلى السماء؟
رشا .. و الأسماء على قدر أصحابها
أن تكون جابرًا لكل مصاب، لكل ألم، لكل عثرة، لكل عقدة... أنثى بقدر قبيلة من الرجال – الرجال لا الذكور فقط – وهي كذلك.
ذكية حدَّ أن تفهم ما وراء كلامك، عميقة بقدر أن تسبر غور هذه الأنفس التي تتلون مع كل ليل ونهار.
كل هذا من صفات النفس البشرية، قد يمتلكها كل من حباه الله بموهبة، لكن أن تجمع مع هذا كله القول والفعل، فهذا مما ندر.
تعطي عطاء من لا يمل... وقديمًا، مدح المتنبي من يعطي العطاء الدائم، فالكرم هبة لا تكلّف. هناك من في ظرف مؤقت يصبح كريمًا، ثم ما أن يتكرر الأمر حتى تعود له نفسه القديمة، فيعود لأصله. أما هي، فتعطي من أصل، وتمنح من طبع، وتجود من طيب معدن.
ومع هذا – وفوق هذا – فهي تأتي حين تكون الأمور قد انغلقت، وتشكلت العقد، وضاقت ذات اليد، وافتقر من افتقر. حينذاك، يلهمها الله أن تأتي.
وحسبك بهذه الكلمة: (أن تأتي).
حينذاك، اسأل نفسك: ماذا يفعل المطر حين يأتي؟ وماذا يتغير في الربيع حين يأتي؟ وكيف تصبح الدنيا مع شروق الشمس حين تأتي؟
حين تأتي، يعني أن تكون بخير، أن تجدد نفسك للحياة، أن تحل العقد، أن تفتح الأبواب، أن تكون بخير.
لماذا؟ لأن الأسماء على قدر أصحابها. واسمها رشا الجابر.
أربعة عشر عدد زوجي
يتعب من يفقد كل ما يرغب. جملة أعتقد أنني ابتدعها الآن، أو أنها في أقصى الذاكرة من سطر قرأته، لا أدري. ثم لا يهم، لأن أربعة عشر عدد زوجي، وبقليل من المنطق – والأعداد منطقية – هي مجموع عددين فرديين. سبعة، تضيف لها سبعة، تصبح أربعة عشر، عددًا ونقدًا
نقدًا، هو ما يهم.
حين تريد كيلو من الطماطم، فهو بسبعة، وحين تريد اثنين، فهو – منطقيًا، بأربعة عشر – نقدًا. أضف لها الضريبة، تكون عددًا فرديًا: أربعة عشر وخمسًا وسبعين هللة.
هل أخبرك بسر؟ دون هذه الخمس والسبعين هللة، لن تحصل على الطماطم! هل اتضحت لك الفكرة؟
ثم، ماذا عن تقليب فكرك في هذا العدد؟ غير منطقي أن تمتلك أربعة عشر (نقدًا) ولا تمتلك خمسًا وسبعين هللة. شخصيًا، لم يسبق لي أن رأيت شخصًا يحمل في جيبه خمسًا وسبعين هللة. امتلاكها شيء، وأن تكون معه شيء آخر.
ثم ماذا؟
ثم عليك أن تستحضر الدبلوماسية مع البائع، كأن تقنعه بالتنازل – عن طيب خاطر – عن الهللات، وتعده بأشد المواثيق أنك ستصبح زبونًا دائمًا عنده. وقد – وأقول قد – تحضر معك هللات لوقت الحاجة. أو أن يكون خيار الفقراء المعروف، السائر في هذه الدنيا، أن تتنازل عن الكيلو الثاني، وتفكر بكذبة – بيضاء حزينة – لأمك، عن أن الطماطم نفد من المزارع، فلا الفلاحون فلاحون، ولا الطماطم طماطم، والدنيا غير الدنيا.
يا – حلوة اللبن – ولللبن قصة أخرى، فهو يأتي مع الحليب بالضرورة، فلا وجه أن تتنازل عن أحدهما، وتفكر بكذبة، ولا وجه ألا تمتلك ضريبته – فالبقرة شركة في نهاية المطاف – وهو ليس له هللات.
هنا فقط، حين يكون مقدرًا لك أن رشا الجابر – والأسماء على قدر أصحابها – قد تبادر لها الإلهام فتأتي.
هل يحتاج الأمر لمزيد من التوضيح؟ لقد جاء الخير، والجابر كله خير، والطماطم، بدلًا من الكيلو، أصبح صندوقًا أبيض، والحليب مع اللبن والجبن أيضًا. وبدلًا من التنازل والدبلوماسية، تتصرف كأنك ابن ثري، لا يقنعك إلا السلعة ذات الجودة العالية، وإن غلا ثمنها.
فلله هذه الرشا، كيف تفعل!
حادية العيس
تحتُ النافذة، وإذا الفضاءُ رحبٌ. مددتُ يدي له ولكلِّ ما في هذا العالم. أُغنّي بالكلماتِ حاديةً للعيسِ في أقصى الأرض.
ما كانت لحظةً عابرةً، بل ليلةً طويلةً امتدت حتى الصباح. سطورٌ سارت كالعيسِ في الأرض، تُردد النغم، وتجدُّ المسيرَ والطريقَ بعدَ طويلٍ، والليلُ والنهارُ يتجدَّدُ.
مَن يجيدُ الإصغاءَ، لا الاستماعَ فقط، من يعرفُ وزنَ الوترِ، لا الدندنةَ فقط، من يرى الكلمةَ ويسمعُ الصوتَ، كأنَّه في أولِ القافلةِ، والعيسُ تعبرُ الفضاءَ الرحبَ.
أن يبقى في ذاكرتِك طويلًا، أن يُلامسَ جُرحًا فيتألمَ معك، أن يبقى في ذاكرتِك فتسافرَ معها، تجدُ كلماتٍ كانت تريدُ أن تخرجَ نغمةً، ونغمًا جاء على سطرٍ من الكلمات، فتلتقطُه السيارةُ لتركبَ معنا، فالعيسُ تجدُّ بالمسيرِ في الفضاءِ الرحبِ.
فإن كان لك نصيب.. أو كان عليك حمل ثقيل
أو أنَّ سفرك لم تتبيَّن وجهتَه بعد، أو الطريقُ في المنتصف
هنا بعضٌ منك
هنا فتحتُ نافذتي، وإذا الفضاءُ رحبٌ، أُحادي العيسِ التي تجدُّ بالمسير
لتسمع وترى